( قصرٌ في الجنّة )
طُرق الباب ، دخل على أبي في الجمعيّة
الخيريّة شابٌّ في العقد الرّابع من عُمره ، في يده حقيبة بُنّيَّة ، وعلى
وجهه آثار السّفر ، ألقى التّحية وردّ عليه أبي ورحّب به ، وأجلسه في
المقعدِ القريبِ منه ، قال وهو يرتشف قدحاً من الشّاي : لقد قرّرتُ أنا
وزوجتي أن نتصدّق بهذا المال الذي ادّخرناه لسنوات ، يحدونا الأمل أن نبني
به بيتاً أنيقاً تُحيطه حديقةٌ فيحاء ، يلعب فيها أطفالنا مع أترابهم ،
أحلامٌ وأحلامٌ ، وبعد أن جمعنا المال ، بدا لنا أمرٌ آخر ، أن ندّخره عند
الله ، قصراً في دار السّلام وها هُو بين يديك فاجعله حيث شئت في أبواب
الخير صدقةً جاريةً .
ابتسم أبي ابتسامةً مُشرقةً ، وربت على كتف
الشّاب ، وقال أسأل الله أن يتقبّله منك رصيداً وذُخراً في دار البقاء ،
فتح الحقيبة ولشدة ما كانت المفاجئة السّارّة مليونان من الجُنيهات إنّها
تكفي لتشييد مصنع أو لبناءِ مدرسة ، نعم إنّه تكلفة مشروع المدرسة
النّموذجية التي طالما تمناها أبي ، كي تنهض بالمُجتمع وترقى بالأخلاق
وتغرسُ القِيَم وتُهذّب النُّفوس وتُغذّي العُقول ، قال الشّابّ : كما ترى
يا أبا أحمد بشرط أن أتكفّل بكُلّ النّفقات مهما بلغت .
مرّت الأيام وتفتّق البِناء وارتفع ، وكاد أن
يتمّ لولا نفقات يسيرة لا تتجاوز خمسة عشر ألف جُنيه ، برّ أبو أحمد بوعدِه
اتّصل بهذا الشّاب السّخيّ طلب منه أن يتفضّل بزيارته في المؤسّسة التي
يُديرُها بالقاهرة ، سافر إليه ومعَه ولده خالد أصغر أبنائه ، وصلا لمكتبه
هشّ لهم وبشّ ، أكرم ضيافتهم ، حضر وقت صلاة الظُّهر ، خرجوا جميعا للمسجد
وبعد الصّلاة انصرف بهم إلى بيتِه للغداء والاسترواح ، ثُمّ عادوا إلى
المُؤسّسة بعد صلاة العصر ، وطال مُكْثُهم حتّى المغرب ، أبو أحمد يُريد أن
يعود لقد تأخّر طويلاً ، والشّاب لم يتطرّق إلى الموضوع ( المبلغ ) ،
تكلّم أبو أحمد بعد تردُّد وكان معروفا بحزمه ، قال : لقد تأخّرت ، وعدتني
بالمبلغ ! فهل أنصرف الآن ؟ قال الشّاب بسُكُونٍ وتؤدة بل انتظر قليلاً ،
لقد تعمّدت أن تبقى معي حتّى ينتهي الدّوام ، إنّني عزمْت أن أتصدّق بكُلّ
ما في خزينة اليوم من مال .
بعد ساعاتٍ انتهى الدّوام ، وأخذ الشّاب
حصيلة اليوم ستّون ألف جُنيْهاً قدّمها لأبي أحمد الذي عاش لحظاتٍ بين
الذّهول والفرح ، قال للمحسن مشفقا : طلبتُ منك رُبْع هذا المبلغ ، هُو
يكفينا لا حاجة لنا بالباقي ! قال أبو أحمد : ولكن هل تحرمني من هذا الخير ؟
سكتَ الوالد سكُوت الرّضا وانصرف شاكراً .
عُدْنا إلى بلدِنا ، ما إن ولجت البيت حتّى ارتميت على الفراش ، وخطفني
النّوم ، وطرحني في سهاده ، وأنا استمتع بدفء الفِراش في ليل الشّتاء ، دقّ
جرس الهاتف نهِضت من الفراش أوقدت المِصباح نظرتُ في السّاعة التي على
المنضدة ، السّاعة الثّالثة يا لقلّة الذوق ، يوقظون النّاس من نومهم في
هذه السّاعة .
قُلت هذا ضجِراً ، ولم أردّ على الهاتِف ، الذي رنّ للمرّة الثّانية انتبه
أبي وسألني : لم لا ترد يا خالد ؟ فقلت : أناسٌ مُزعجون ! لا يستحقُّون رفع
السّمّاعة ، قال عيبٌ عليك يا بُنيّ ، الله أعلمُ بخطبهم ، رفعت السّمّاعة
، إنّه الشّاب السّخي ، يا أبي تناول الوالد السّمّاعة وحيّاه وقال : تدري
يا حاجّ لماذا اتّصلتُ بك في هذه السّاعة ؟ لا يا بُنيّ ما الخطب ؟ قال :
المبلغ الذي أعطيتك ؟ هل تُريد استرداده ؟ هل أخطأت في الحساب ؟ لا يا عمّ
لم أُخطئ في الحساب لقد رُدّ إليّ بالفعل ولكن بعشر أضعاف !
قال أبي متعجبا وقد طار النوم من عينيه : كيف يا بُنيّ ؟
هذا ما أردتُ أن أقوله لك !
ولم أُطق صبراً حتّى الصّباح ، بينما أنا أهنئ بنومٍ حالمٍ ، إذ بمركبة في
عرض البحر ، محمّلة بالبضائع في طريقها إلى استانبول ، منعت السّلطات
دُخولها إلى البلاد التّركيّة ، فلم يكن بُدّ من تفريغها في أقرب ميناء
وعِند أكبر تاجر بخصم كبير جِدّاً ، وقع الاختيار على مِصر ، وعلى العبدِ
الفقير ، اتّصلوا بي وعرضوا الأمر وقد قبلت .
تدري يا حاج محمد كم أربح فيها بإذن الله وفضلِه ؟ ستمئة ألف ، يعني عشر أضعاف ما قدمت .
قال
أبي صدق الله العظيم ( والله يُضاعِف لمن يشاء ) ، (مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، ( وما أنفقتم من شيءٍ فهو
يُخلفه ) .